فصل: إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْبَةَ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ وَثَبَاتِهِ وَقَدْ تَوَلّى عَنْهُ النّاسُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل هَلْ الْعَارِيّةُ مَضْمُونَةٌ:

وَفِيهَا: أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَرَطَ لِصَفْوَانَ فِي الْعَارِيّةِ الضّمَانَ فَقَالَ «بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ» فَهَلْ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ شَرْعِهِ فِي الْعَارِيّةِ وَوَصْفٌ لَهَا بِوَصْفٍ شَرَعَهُ اللّهُ فِيهَا، وَأَنّ حُكْمَهَا الضّمَانُ كَمَا يُضْمَنُ الْمَغْصُوبُ أَوْ إخْبَارٌ عَنْ ضَمَانِهَا بِالْأَدَاءِ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَاهُ أَنّي ضَامِنٌ لَك تَأْدِيَتَهَا، وَأَنّهَا لَا تَذْهَبُ بَلْ أَرُدّهَا إلَيْك بِعَيْنِهَا؟ هَذَا مِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ. فَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ بِالْأَوّلِ وَأَنّهَا مَضْمُونَةٌ بِالتّلَفِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِالثّانِي، وَأَنّهَا مَضْمُونَةٌ بِالرّدّ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ أَنّ الْعَيْنَ إنْ كَانَتْ مِمّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ لَمْ تُضْمَنْ بِالتّلَفِ إلّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمّا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالْحُلِيّ وَنَحْوِهِ ضُمِنَتْ بِالتّلَفِ إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى التّلَفِ وَسِرّ مَذْهَبِهِ أَنّ الْعَارِيّةَ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلّا أَنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُخَالِفُ الظّاهِرَ فَلِذَلِكَ فُرّقَ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ. وَمَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ أَنّ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِصَفْوَانَ بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ هَلْ أَرَادَ بِهِ أَنّهَا مَضْمُونَةٌ بِالرّدّ أَوْ بِالتّلَفِ؟ أَيْ أَضْمَنُهَا إنْ تَلِفَتْ أَوْ أَضْمَنُ لَك رَدّهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ فِي ضَمَانِ الرّدّ أَظْهَرُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنّ فِي اللّفْظِ الْآخَرِ بَلْ عَارِيّةٌ مُؤَدّاةٌ، فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّ قَوْلَهُ الثّانِي: أَنّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ تَلَفِهَا، وَإِنّمَا سَأَلَهُ هَلْ تَأْخُذُهَا مِنّي أَخْذَ غَصْبٍ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا؟ فَقَالَ لَا بَلْ أَخْذَ عَارِيّةٍ أُؤَدّيهَا إلَيْك. وَلَوْ كَانَ سَأَلَهُ عَنْ تَلَفِهَا وَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَذْهَبَ لَنَاسَبَ أَنْ يَقُولَ أَنَا ضَامِنٌ لَهَا إنْ تَلِفَتْ.
الثّالِثُ أَنّهُ جَعَلَ الضّمَانَ صِفَةً لَهَا نَفْسِهَا، وَلَوْ كَانَ ضَمَانَ تَلَفٍ لَكَانَ الضّمَانُ لِبَدَلِهَا، فَلَمّا وَقَعَ الضّمَانُ عَلَى ذَاتِهَا، دَلّ عَلَى أَنّهُ ضَمَانُ أَدَاءٍ. فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْقِصّةِ أَنّ بَعْضَ الدّرُوعِ ضَاعَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا، فَقَالَ أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ أَرْغَبُ قِيلَ هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرًا وَاجِبًا أَوْ أَمْرًا جَائِزًا مُسْتَحَبّا الْأَوْلَى فِعْلُهُ وَهُوَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ وَمِنْ مَحَاسِنِ الشّرِيعَةِ؟ وَقَدْ يَتَرَجّحُ الثّانِي بِأَنّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ الضّمَانَ وَلَوْ كَانَ الضّمَانُ وَاجِبًا، لَمْ يَعْرِضْهُ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَفِي لَهُ بِهِ وَيَقُول: هَذَا حَقّك، كَمَا لَوْ كَانَ الذّاهِبُ بِعَيْنِهِ مَوْجُودًا، فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ رَدّهُ فَتَأَمّلْهُ.

.فصل جَوَازُ عَقْرِ مَرْكُوبِ الْعَدُوّ إذَا كَانَ عَوْنًا عَلَى قَتْلِهِ:

وَفِيهَا: جَوَازُ عَقْرِ فَرَسِ الْعَدُوّ وَمَرْكُوبِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى قَتْلِهِ كَمَا عَقَرَ عَلِيّ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- جَمَلَ حَامِلِ رَايَةِ الْكُفّارِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ.

.عَفْوُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّنْ هَمّ بِقَتْلِهِ:

وَفِيهَا: عَفْوُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّنْ هَمّ بِقَتْلِهِ وَلَمْ يُعَاجِلْهُ بَلْ دَعَا لَهُ وَمَسَحَ صَدْرَهُ حَتّى عَادَ، كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ.

.إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْبَةَ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ وَثَبَاتِهِ وَقَدْ تَوَلّى عَنْهُ النّاسُ:

وَمِنْهَا: مَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النّبُوّةِ وَآيَاتِ الرّسَالَةِ مِنْ إخْبَارِهِ لِشَيْبَةَ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ ثَبَاتِهِ وَقَدْ تَوَلّى عَنْهُ النّاسُ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ** أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

وَقَدْ اسْتَقْبَلَتْهُ كَتَائِبُ الْمُشْرِكِينَ. وَمِنْهَا: إيصَالُ اللّهِ قَبْضَتَهُ الّتِي رَمَى بِهَا إلَى عُيُونِ أَعْدَائِهِ عَلَى الْبُعْدِ مِنْهُ رَآهُمْ الْعَدُوّ جَهْرَةً وَرَآهُمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ.

.جَوَازُ انْتِظَارِ إسْلَامِ الْكُفّارِ حَتّى تُرَدّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ قَبْلَ قَسْمِهَا:

وَمِنْهَا: جَوَازُ انْتِظَارِ الْإِمَامِ بِقَسْمِ الْغَنَائِمِ إسْلَامَ الْكُفّارِ وَدُخُولَهُمْ فِي الطّاعَةِ فَيَرُدّ عَلَيْهِمْ غَنَائِمَهُمْ وَسَبْيَهُمْ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنّ الْغَنِيمَةَ إنّمَا تُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ لَا بِمُجَرّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، إذْ لَوْ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ بِمُجَرّدِ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يَسْتَأْنِ بِهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَرُدّهَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ رُدّ نَصِيبُهُ عَلَى بَقِيّةِ الْغَانِمِينَ دُونَ وَرَثَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لَوْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ شَيْءٌ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَسَهْمُهُ لِوَرَثَتِهِ.

.فصل هَلْ الْعَطَاءُ الّذِي أَعْطَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ:

؟ وَهَذَا الْعَطَاءُ الّذِي أَعْطَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ، وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ هَلْ هُوَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؟ فَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ: هُوَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي جَعَلَهُ اللّهُ لَهُ مِنْ الْخُمُسِ وَهُوَ غَيْرُ الصّفِيّ وَغَيْرُ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَغْنَمِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَأْذِنْ الْغَانِمِينَ فِي تِلْكَ الْعَطِيّةِ. وَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لَاسْتَأْذَنَهُمْ لِأَنّهُمْ مَلَكُوهَا بِحَوْزِهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْخُمُسِ لِأَنّهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ فَهُوَ إذًا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنّ النّفْلَ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ مِنْ النّفْلِ نَفّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ رُءُوسَ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ لِيَتَأَلّفَهُمْ بِهِ وَقَوْمَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ تَنْفِيلِ الثّلُثِ بَعْدَ الْخُمُسِ وَالرّبُعِ بَعْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْإِسْلَامِ وَشَوْكَتِهِ وَأَهْلِهِ وَاسْتِجْلَابِ عَدُوّهِ إلَيْهِ هَكَذَا وَقَعَ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الّذِي نَفّلَهُمْ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتّى إنّهُ لَأَحَبّ الْخَلْقِ إلَيّ فَمَا ظَنّك بِعَطَاءٍ قَوّى الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَأَذَلّ الْكُفْرَ وَحِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ بِهِ قُلُوبَ رُءُوسِ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ الّذِينَ إذَا غَضِبُوا، غَضِبَ لِغَضَبِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ وَإِذَا لِرِضَاهُمْ. فَإِذَا أَسْلَمَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِمْ فَلِلّهِ مَا أَعْظَمَ مَوْقِعَ هَذَا الْعَطَاءِ وَمَا أَجْدَاهُ وَأَنْفَعَهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنّ الْأَنْفَالَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ يَقْسِمُهَا رَسُولُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ لَا يَتَعَدّى الْأَمْرَ فَلَوْ وَضَعَ الْغَنَائِمَ بِأَسْرِهَا فِي هَؤُلَاءِ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ الْعَامّةِ لَمَا خَرَجَ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْعَدْلِ وَلَمَا عَمِيَتْ أَبْصَارُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ وَأَضْرَابِهِ عَنْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ. قَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ اعْدِلْ فَإِنّكَ لَمْ تَعْدِلْ. وَقَالَ مُشَبّهُهُ إنّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللّهِ وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِرَسُولِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِرَبّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ وَتَمَامِ عَدْلِهِ وَإِعْطَائِهِ لِلّهِ وَمَنْعِهِ لِلّهِ وَلِلّهِ- سُبْحَانَهُ- أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ كَمَا يُحِبّ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا الْغَانِمِينَ جُمْلَةً كَمَا مَنَعَهُمْ غَنَائِمَ مَكّةَ، وَقَدْ أَوْجَفُوا عَلَيْهَا بِخَيْلِهِمْ وَرِكَابِهِمْ وَلَهُ أَنْ يُسَلّطَ عَلَيْهَا نَارًا مِنْ السّمَاءِ تَأْكُلُهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَمَا فَعَلَ مَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ عَبَثًا، وَلَا قَدّرَهُ سُدًى، بَلْ هُوَ عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالرّحْمَةِ مَصْدَرُهُ كَمَالُ عِلْمِهِ وَعِزّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَقَدْ أَتَمّ نِعْمَتَهُ عَلَى قَوْمٍ رَدّهُمْ إلَى مَنَازِلِهِمْ بِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُودُونَهُ إلَى دِيَارِهِمْ وَأَرْضَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النّعْمَةِ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ كَمَا يُعْطَى الصّغِيرُ مَا يُنَاسِبُ عَقْلَهُ وَمَعْرِفَتَهُ وَيُعْطَى الْعَاقِلُ اللّبِيبُ مَا يُنَاسِبُهُ وَهَذَا فَضْلُهُ وَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَهُ تَحْتَ حَجْرِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ وَيُحَرّمُونَ وَرَسُولُهُ مُنَفّذٌ لِأَمْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ دَعَتْ حَاجَةُ الْإِمَامِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ عَدُوّهِ هَلْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ؟ قِيلَ الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَصَرّفُ لِمَصَالِحِهِمْ وَقِيَامِ الدّينِ. فَإِنْ تَعَيّنَ ذَلِكَ لِلدّفْعِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالذّبّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَاسْتِجْلَابِ رُءُوسِ أَعْدَائِهِ إلَيْهِ لِيَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ شَرّهُمْ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ تَعَيّنَ عَلَيْهِ وَهَلْ تُجَوّزُ الشّرِيعَةُ غَيْرَ هَذَا، فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحِرْمَانِ مَفْسَدَةٌ فَالْمَفْسَدَةُ الْمُتَوَقّعَةُ مِنْ فَوَاتِ تَأْلِيفِ هَذَا الْعَدُوّ أَعْظَمُ وَمَبْنَى الشّرِيعَةِ عَلَى دَفْعِ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، أَدْنَاهُمَا، بَلْ بِنَاءُ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالدّينِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ. وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل جَوَازُ بَيْعِ الرّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا:

وَفِيهَا: أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يُطَيّبْ نَفْسَهُ فَلَهُ بِكُلّ فَرِيضَةٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ اللّهُ عَلَيْنَا. فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرّقِيقِ بَلْ الْحَيَوَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا. وَفِي السّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهّزَ جَيْشًا، فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ الصّدَقَةِ وَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ الصّدَقَةِ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّه نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ وَصَحّحَهُ. وَفِي التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ الْحَجّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ نَسِيئًا، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ» قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. أَحْمَدَ:
أَحَدُهَا: جَوَازُ ذَلِكَ مُتَفَاضِلًا، وَمُتَسَاوِيًا نَسِيئَةً وَيَدًا بِيَدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ.
وَالثّانِي: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ نَسِيئَةً وَلَا مُتَفَاضِلًا.
وَالثّالِثُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النّسَاءِ وَالتّفَاضُلِ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ- رَحِمَهُ اللّهُ- وَالرّابِعُ إنْ اتّحَدَ الْجِنْسُ جَازَ التّفَاضُلُ وَحَرُمَ النّسَاءُ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ جَازَ التّفَاضُلُ وَالنّسَاءُ. وَلِلنّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالتّأْلِيفِ بَيْنَهَا ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ أَحَدُهَا: تَضْعِيفُ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ لِأَنّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ سِوَى حَدِيثَيْنِ لَيْسَ هَذَا مِنْهُمَا، وَتَضْعِيفُ حَدِيثِ الْحَجّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَالْمَسْلَكُ الثّانِي: دَعْوَى النّسْخِ وَإِنْ لَمْ يَتَبَيّنْ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا مِنْ الْمُتَقَدّمِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ. وَالْمَسْلَكُ الثّالِثُ حَمْلُهَا عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهُوَ أَنّ النّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً إنّمَا كَانَ لِأَنّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى النّسِيئَةِ فِي الرّبَوِيّاتِ فَإِنّ الْبَائِعَ إذَا رَأَى مَا فِي هَذَا الْبَيْعِ مِنْ الرّبْحِ لَمْ تَقْتَصِرْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ بَلْ تَجُرّهُ إلَى بَيْعِ الرّبَوِيّ كَذَلِك، فَسَدّ عَلَيْهِمْ الذّرِيعَةَ وَأَبَاحَهُ يَدًا بِيَدٍ وَمَنَعَ مِنْ النّسَاءِ فِيهِ وَمَا حَرُمَ لِلذّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا أَبَاحَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ الْعَرَايَا لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَأَبَاحَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً مُتَفَاضِلًا فِي هَذِهِ الْقِصّةِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إنّمَا وَقَعَ فِي الْجِهَادِ وَحَاجَةُ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَمَعْلُومٌ أَنّ مَصْلَحَةَ تَجْهِيزِهِ أَرْجَحُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً وَالشّرِيعَةُ لَا تُعَطّلُ الْمَصْلَحَةَ الرّاجِحَةَ لِأَجْلِ الْمَرْجُوحَةِ وَنَظِيرُ هَذَا جَوَازُ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ وَجَوَازُ الْخُيَلَاءِ فِيهَا، إذْ مَصْلَحَةُ ذَلِكَ أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَةِ لُبْسِهِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ لِبَاسُهُ الْقَبَاءَ الْحَرِيرَ الّذِي أَهْدَاهُ لَهُ مَلِكُ أَيْلَةَ سَاعَةً ثُمّ نَزْعُهُ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ فِي تَأْلِيفِهِ وَجَبْرِهِ وَكَانَ هَذَا بَعْدَ النّهْيِ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ كَمَا بَيّنّاهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التّخْيِيرِ فِيمَا يَحِلّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَبَيّنّا أَنّ هَذَا كَانَ عَامَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَنّ النّهْيَ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنّهُ نَهَى عُمَرَ عَنْ لُبْسِ الْحُلّةِ الْحَرِيرِ الّتِي أَعْطَاهُ إيّاهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكّةَ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَلِبَاسُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَدِيّةَ مَلِكِ أَيْلَةَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَنَظِيرُ هَذَا نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الصّلَاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ سَدّا لِذَرِيعَةِ التّشَبّهِ بِالْكُفّارِ وَأَبَاحَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَقَضَاءِ السّنَنِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَتَحِيّةِ الْمَسْجِدِ لِأَنّ مَصْلَحَةَ فِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَةِ النّهْيِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إذَا جَعَلَا بَيْنَهُمَا أَجَلًا غَيْرَ مَحْدُودٍ جَازَ إذَا اتّفَقَا عَلَيْهِ وَرَضِيَا بِهِ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فِي الْخِيَارِ مُدّةً غَيْرَ مَحْدُودَةٍ أَنّهُ يَكُون جَائِزًا حَتّى يَقْطَعَاهُ وَهَذَا هُوَ الرّاجِحُ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ وَكُلّ مِنْهُمَا قَدْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَرِضًى بِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَكِلَاهُمَا فِي الْعِلْمِ بِهِ سَوَاءٌ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيّةٌ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا.

.فصل هَلْ الْأَسْلَابُ مُسْتَحَقّةٌ بِالشّرْعِ أَوْ بِالشّرْطِ؟

وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَنّهُ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ وَقَالَهُ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى قَبْلَهَا، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هَذَ السّلَبُ مُسْتَحَقّ بِالشّرْعِ أَوْ بِالشّرْطِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. شَرَطَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ.
وَالثّانِي: أَنّهُ لَا يُسْتَحَقّ إلّا بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ لَا يُسْتَحَقّ إلّا بِشَرْطِ الْإِمَامِ بَعْدَ الْقِتَالِ. فَلَوْ نَصّ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ. قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ إلّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنّمَا نَفّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ. وَمَأْخَذُ النّزَاعِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ، وَالْمُفْتِيَ وَهُوَ الرّسُولُ فَقَدْ يَقُولُ الْحُكْمَ بِمَنْصِبِ الرّسَالَةِ فَيَكُونُ شَرْعًا عَامّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ وَقَوْلِهِ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ وَكَحُكْمِهِ بِالشّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَبِالشّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَقَدْ يَقُولُ بِمَنْصِبِ الْفَتْوَى، كَقَوْلِهِ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَدْ شَكَتْ إلَيْهِ شُحّ زَوْجِهَا، وَأَنّهُ لَا يُعْطِيهَا مَا يَكْفِيهَا: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فَهَذِهِ فُتْيَا لَا حُكْمٌ إذْ لَمْ يَدْعُ بِأَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ جَوَابِ الدّعْوَى، وَلَا سَأَلَهَا الْبَيّنَةَ. وَقَدْ يَقُولُهُ بِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فَيَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَيَلْزَمُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمّةِ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الّتِي رَاعَاهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَمَانًا وَمَكَانًا وَحَالًا، وَمِنْ هَاهُنَا تَخْتَلِفُ الْأَئِمّةُ فِي صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ هَلْ قَالَهُ بِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ مُتَعَلّقًا بِالْأَئِمّةِ أَوْ بِمَنْصِبِ الرّسَالَةِ وَالنّبُوّةِ فَيَكُونَ شَرْعًا عَامّا؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ هَلْ هُوَ شَرْعٌ عَامّ لِكُلّ أَحَدٍ، أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَئِمّةِ فَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ إلّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالْأَوّلُ لِلشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمَا.
وَالثّانِي: لِأَبِي حَنِيفَةَ وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْفَلَوَاتِ الْوَاسِعَةِ وَمَا لَا يَتَشَاحّ فِيهِ النّاسُ وَبَيْنَ مَا يَقَعُ فِيهِ التّشَاحّ فَاعْتُبِرَ إذْنُ الْإِمَامِ فِي الثّانِي دُونَ الْأَوّلِ.

.فصل الِاكْتِفَاءُ فِي الْأَسْلَابِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ:

وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: أَنّ دَعْوَى الْقَاتِلِ أَنّهُ قَتَلَ هَذَا الْكَافِرَ لَا تُقْبَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ.
الثّانِيةُ الِاكْتِفَاءُ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الدّعْوَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمّا الْتَقَيْنَا، كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْت إلَيْهِ حَتّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقَالَ مَا لِلنّاسِ؟ فَقُلْت: أَمْرُ اللّهِ ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَالَ فَقُمْتُ فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْت، ثُمّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ فَقُمْت فَقُلْت: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ قَالَ ذَلِكَ الثّالِثَةَ فَقُمْت، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْ حَقّهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ: لَاهَا اللّهِ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيّاهُ، فَأَعْطَانِي، فَبِعْتُ الدّرْعَ فَابْتَعْت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ تَأَثّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَالثّانِي: أَنّهُ لَابُدّ مِنْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالثّالِثُ- وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- أَنّهُ لَابُدّ مِنْ شَاهِدَيْنِ لِأَنّهَا دَعْوَى قَتْلٍ فَلَا تُقْبَلُ إلّا بِشَاهِدَيْنِ.